حياة الفنان سيد درويش:
في يوم الخميس 29 مايو عام 1919 في منزل بسيط بحي جزيرة بدران بشبرا ، إمتلأت الدنيا بالزغاريد و الفرحة و البهجة بين أصدقاء و أسرة العروس وهي في قمة زينتها و جمالها بإنتظار عقد قرانها على عريسها الشيخ سيد درويش ، وما أن جاء المأذون لعقد القران حتى سكن الجميع و كأن على رؤوسهم الطير ، في انتظار الانتهاء من مراسم الزواج ، وبدأ المأذون في ملأ بياناته الروتينية ، وجاء الوقت لملأ خانة مهنة العريس ، فقال سيد بكل بساطة "موسيقي" ، وما أن سمع المأذون ذلك حتى اكفهر وجه و بدأ يلملم أوراقه مستعداً للإنصراف ، وعندما استوقفه الجميع عن ذلك متعجبين لتصرفه أجابهم باقتضاب أن العرف المتفق عليه يقضي بعدم الإعتراف بأهلية العاملين في الوسط الفني أو الموسيقي ولن يتمكن أى مأذون من إتمام هذه الزيجة ، فما كان من الشيخ سيد درويش إلا أن أجابه والغصة تملأ حلقه بأنه يعمل كـ"مدرساً"!!!.
كانت هذه نقطة إنطلاق القضية التي تبناها الشيخ سيد رويش وهي قضية "كرامة الفنان و نظرة المجتمع له" ، فقد كانت المجتمع يرمق الفنان بنظرة مليئه "بالقرف" و الاستهزاء وعلى أنه أحقر حقير خلق ، فقد تتنكرعائلة بأكملها للابن إذا قرر دخول عالم الفن ، وفي المحاكم لا تؤخذ شهادة الفنان وذلك على إعتبار أن المزيكاتي أو القرداتي أو الأدباتي –كما كان يوصف- لا يعترف به كشخص عاقل له كيان يحترم ، وقد ثارت ثائرة سيد درويش لهذه المعاملة و قرر أن يثبت للمجتمع أن للفنان حق في أن يحترم و أن يعترف بقيمته الهامة جداً في حياة الشعوب.
وتمكن شيخ الفنانين سيد درويش بالفعل من إثبات ذلك بجدارة ، فقد تفنن في إبداع الأغاني والطقاطيق والمسرحيات المأخوذة عن حياة الشعب نفسه ، مما سهل على الجمهور إستقبال الفن الذي قدمه ، كما أن ألحانه على سبيل المثال كانت الوسيلة التي عبر بها الشعب عن سخطه نتيجة نفي الزعيم سعد زغلول وآخرين من الزعماء السياسين في مارس 1919 ، حيث إنتشرت بين صفوف المواطنين أغنيته الشهيرة "يا بلح زغلول" ، فكانت كلمة "السعد" و "زغلول" هما المتنفس الوحيد للتعبير عن الغضب المكبوت في صدور الملايين الثائرة ، في الوقت الذي قامت فيه الحكومة المتشددة من منع نشر أخبار أو أسماء الزعماء المنفيين أو مجرد التلميح لهم ، وكانت هذه المرة الأولى التي إستطاعت بها الأغنية الخفيفة أن تلقي اهتمام واسع من الجميع و أن تدخل التاريخ السياسي بهاتين الكلمتين ، وبهذا بدأ الشيخ سيد في الانتشار بين صفوف الشعب بألحانه الثورية ، سواء المعبأة بروح المقاومة ضد الاستعمار ، أو الثورية على "لون" الغناء القديم الذي إعتمد عليه المطربين القدماء.
وقد كان من شيم الشيخ سيد ألا يضع لحناً لكلمات إلا إذا شعر بها و دخلت إلى عقله و قلبه ، مما جعله يصنع ألحاناً أتت عن رغبة و حب و إيمان بما يغنيه ، وكان مهتماً بتقديم ما يسعد الشعب ويرفه عنه في وقت الحروب والاستعمار ، وفي الوقت الذي كان المجتمع لا يعترف بمكانة الفنان ، فأصبح على يديه الفن هو ما يبهج الشعب و يساعده على الخروج من أزماته وتعبه وشقاؤه ، كما كان يرفض وضع ألحاناً لكلمات لا يشعر بصدقها حتى لو كانت ستدر عليه دخلاً كبيراً ، فعلى الرغم من حاجته للمال ، إلا أن احترامه لمكانته و عمله كفنان كانت تمنعه من إهدار موهبته ، مما أجبر الآخرين على احترامه و تقدير عمله.
كل هذا أدى إلى رد اعتبار الفنان بين أفراد المجتمع ، ومن منطلق استحق الشيخ سيد لقب "فنان الشعب" لعدة أسباب ، منها أنه كان فناناً بسيطاً ، منتهى سعادته هو أن يرى السعادة و السرور على وجوه جمهوره من الغلابة و البسطاء من خلال ألحانه و مسرحياته ، ولم يكن أبداً من مطربي "الصالونات" أو القصور ، و من ذلك القصة الطريفة التي رواها الناقد الفني أحمد حسن رحمه الله ، والذي كان مقرباً من درويش وتعود أن يحضر جميع "لياليه" وسهراته ، وفي أحد الأيام مر عليه الشيخ سيد ليأخذه معه لإحدى السهرات ، فاعتقد هو أنها ستكون سهرة عبقرية ، إلا أنه روى له في الطريق أنه استقل في نهار اليوم نفسه عربة حنطور مع سائق لا يعرفه ، وسمعه ينادي على زميلٍ له في الاتجاه المقابل و يدعوه إلى سهرة في بيته الليلة بمناسبة سبوع ابنه ، فرد عليه صديقه ساخراً :"يعني مسهر الشيخ درويش يا أخي؟!" ، وتضاحك الصديقان ومضى كلاَ منهما في طريقه ، وتمكن الشيخ سيد من خلال حديثه مع السائق من معرفة عنوانه ، وقرر أن يحيي حفلة "سبوع" ابنه ..
وبالفعل جاء الليل ومر الشيخ سيد على صديقه أحمد حسن و قد شقا طريقهما نحو منزل هذا السائق ، ومن حارة إلى زقاق إلى عطفة داخل حي شعبي ، وجد السائق راكب الصباح يقف أمامه حاملاً عوده ، وعندما علم أنه الشيخ سيد درويش "بشحمه و لحمه" لم يصدق نفسه و قفز عليه يقبله و يعانقه ، وقد انتشر خبر وجوده في الحي بأكمله و تجمع الأهالي و الجيران ليجلسوا حول الشيخ سيد دوريش الذي أخذ يأكل و يشرب معهم ويغني ويحفظهم ألحانه . ويعلق أحمد حسن رحمه الله على هذه الليلة " ووالله ماسمعت سيد يحلق إلى القمم التي حلق فيها تلك الليلة بمثل الإبداع الذي جعلها ليلة العمر في حياتي" ، وهذا مثال حي على مدى بساطة هذا الفنان وحبه للناس وتواضعه معهم.
وسبب آخر قد يفسر استحقاقه للقب "فنان الشعب" وهي كيف أنه كان يستشف ألحانه العبقرية من "أغاني الشارع" ، فعلى الرغم من أن هذا اللفظ قد يثير حافظة البعض ، إلا أنه يجسد الحقيقة ، فقد عثر الشيخ سيد على ثروة لحنية جديدة في أسلوبها و جوهرها من خلال كنز لايفنى من ألحان الشارع ونبع لا ينضب من ألحان عفوية لاحصر لها ، وكانت بداية هذا الإكتشاف مع أول ألحانه لفرقة نجيب الريحاني "السقايين" .
ويروي الفنان نجيب الريحاني قصة هذا اللحن في مذكراته ، بأنه قد تم تسليم الشيخ سيد زجل لرواية أطلق عليها "ولو" وهى عبارة عن شكوى من مجموعة سقايين يروون فيها للجمهور آلامهم في الحياة ، وقد وعد الشيخ سيد بأن يجهز اللحن في الغد ، وجاء اليوم التالي و لم يظهر ، ومر يوماً آخر ولا أثر للحن بعد ، وفي اليوم الثالث ذهب أحد الأصدقاء إلي الشيخ سيد في منزله وسهر معه في هذه الليلة ، فوجده لم يجهز اللحن بعد لأن قريحته متحجرة وقد قضي الثلاثة أيام الماضية يحاول في العثورعلى اللحن المناسب و لكن دون جدوى ، وفيما هما يتحدثان ونهار يوم جديد أوشك على الظهور ، صادفهمها صوت ساقي يحمل الماء على ظهره ويجوب الحواري وهو ينادي بأعلى صوته و بنغمته التقليدية الخاصة قائلاًً "يعوض الله" فتنبه الشيخ سيد ، وأمسك ذراع صديقه و هتف " خلاص .. خلاص لقيت اللحن اللى انا عاوزه" ، وغنى الشيخ سيد هذا اللحن على أفراد فرقة الريحاني ، وعلى الرغم من معرفته لجودة هذا اللحن و تميزه ، إلا انه لم يتمكن من إخفاء قلقه و هو يراقب تأثير اللحن على وجوه مستمعيه ، إلى أن إطمأنت نفسه بعد لاحظ عليهم القبول وقد وجد الطريق إلى قلوبهم ، وأنه قد حاز رضا الجميع بعد ان استخدم نفس النداء "الحي" بمقامه الموسيقي وجعله بداية اللحن.
الشيخ سيد أحسن إستماعه إلى النداءات الشعبية المنتشرة في الأسواق و الميادين بين الناس ، وجمعها في ذاكرته وحفظها ، مما سهل عليه استخدامها كمصدراً للإلهام و ذلك بإعادة صياغتها في ألحان سهلة لا تشعر بغربة وأنت تستمتع إليها حتى خرجت رائعة بما فيها من بساطة الحياة وجمالها.
"ألحان الشارع" التي ابتدعها سيد درويش جعلته يتحمل موجات عاتية من هجوم لا مثيل له في عالم الفن في حياته و بعد وفاته أيضاً ، فقد تنكر العديدون للون الغناء الجديد الذي قدمه ، ونعته البعض بالسارق وذلك بنسب ألحان من صنعه إلى أنفسهم ، بل أنه نعت بالسارق لإستعانته بألحان الشارع العفوية في صنع ألحانه ، ولكن على الرغم من كل ذلك فقد كان و سيظل الشيخ سيد درويش هو عميد الأغنية المصرية و فنان الشعب و صاحب كل الألقاب التي منحها جمهوره إياه رغم أنف الجميع ، وخاصة ... الحاقدين!!
"ليست الموسيقى صناعة من الصناعات المنحطة التي يتخذها محترفوها وسيلة للكسب فحسب بل هى فن جميل راق يجب أن يعمل المشتغلون به على ترقيته قبل أن يعملوا على الربح منه لأنه من الفنون التي تستخدمها الأمم الراقية لتقويم الأخلاق و ترقية النفوس و الحض على الولاء ، ذلك إعتقادي وهو إعتقاد كل مشتغل بفن الموسيقى بإخلاص وغيره بل هو الواجب المحتوم على كل من يتصدى لخدمة هذا الفن" كان هذا قول فنان الشعب و شيخ الأغنية الراحل سيد درويش..رحمه الله.
1892 : يوم 17 مارس في منزل متواضع بحي كوم الدكة بالإسكندرية بشارع السوق الذي سمي الآن شارع الشيخ سيد درويش ، ولد طفل صغير عرفه التاريخ بإسم السيد درويش البحر.
1923 : في شهر سبتمبر توفي الأسطورة السيد درويش في موطنه بالإسكندرية في ظروف غامضة إلى الآن وهو في ريعان شبابه ، رحمه الله.
** المصدر : "من أجل أبي .. سيد درويش" تأليف حسن درويش